مع اقتراب نهاية فترة رئاسة باراك اوباما، وظهور ملامح خليفته المنتظر، يتضح لنا اكثر فأكثر أهمية الفرصة الضائعة لتحقيق تسوية عادلة، او ممكنة لأزمة الشرق الأوسط، والتي ضاعت بفعل غياب موقف عربي موحد يستثمر وجود هذا الرجل الإستثنائي في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
الحقيقة ان وصول باراك اوباما الى سدة الرئاسة لم يكن ليحصل في بلد يصدر الرأسمالية المتوحشة الى العالم، لو لم تتضافرعدة عوامل استثنائية لدعم وصوله.
تنبع إستثنائية شخصيته من نشأته الغريبة والمعقدة، فهو ولد لأب كيني أسود، وأم بيضاء، ولم يكن هذا زواجاً مختلطاً عاديا لو علمنا انه تم سنة 1960 أي في ذروة مشكلة التمييز العنصري ضد السود في الولايات المتحدة، وفي عمر السنتين انفصل والداه لتعود والدته وتتزوج من مهندس اندونيسي وتنتقل مع الطفل اوباما وهو بعمر 6 سنوات للعيش في اندونيسيا حيث درس في احدى المدارس الاسلامية لاربع سنوات، عاد بعدها الى كنف جدّيه لأمه في ولاية هونولولو، بعدها انتقل ليكمل دراسة الحقوق في جامعة هارفرد. وكان اول عمل مارسه قبل نيله شهادة المحاماة، هو "منظم اجتماعي" ومهمته تنظيم ورعاية المجتمعات الفقيرة وتطويرها.
هذا التعامل مع الفقراء لم يكن مجرد وظيفة يؤديها، بل تفاعل مع معاناة الناس وبقي وفياً لهذه الطبقة الفقيرة، وبرز هذا التفاعل في مشاريع القوانين التي حملها معه الى سدة الرئاسة، واهمها الغاء أو تخفيف الضرائب على محدودي الدخل، وزيادتها على الأغنياء، كذلك مشروع توسيع دائرة المستفيدين من الضمان الصحي، وهذه الشعارات جعلته هدفاً فورياً للطبقة البورجوازية المسيطرة على مفاصل الحياة الإقتصادية في البلاد. فسارعوا الى وصفه بالإشتراكي تارة وبالشيوعي تارة أخرى. عدا عن دوام التشكيك بخلفيته الدينية بلحاظ ديانة والده الإسلامية.
إضافة الى التفاف السود الأميركيين حوله تلقائياً، جمع إلى معسكره فئات عديدة من الشعب وخاصة من الشباب، والذين كانوا يتطلعون في تلك الفترة الى مرشح غير تقليدي، يحمل طروحات جدية للخروج من الأزمة الإقتصادية الخطيرة التي أصابت البلاد والتي عرفت بأزمة الرهن العقاري وصولا إلى تتالي إشهارات الإفلاس لبعض اهم البنوك الأميركية. كذلك كانوا بحاجة الى من يخرجهم من مستنقع الحرب العراقية. وقد تجلى هذا الدعم الشعبي بالتبرعات لحملته الإنتخابية حيث جمع مبلغاً ضخماً من تبرعات مليون ونصف مليون مواطن من محدودي الدخل، ولم يعتمد كغيره من المرشحين على كبار رجال الأعمال. هذا كله لم يكن ليمكنه من هزيمة جبابرة المال واللوبيات لولا امتلاكه لعصا سحرية وهي: فن الخطابة، لذا جاء الى الحكم بدعم شعبي قل نظيره عند غيره من المرشحين.
اتى الى الحكم حاملاً حكمته الشهيرة، "القادة نوعان: من يريد ان يكون شيئاً ما، ومن يريد ان يصنع شيئاً ما".
النظام الأميركي وسياساته التي يحكمها الطمع والغرور، جرّ العالم الحديث الى ملعبه، وامتدت تأثيراته الى الدول الأوروبية التي كانت تحاول الإبتعاد عن جو الصراعات والأحلاف التي سقطت بانتهاء الحرب الباردة. هذا النظام الجبار من حيث قدراته الاقتصادية والعسكرية، لا يسمح بظهور اي تهديد له سواء كان داخلياً او خارجياً، ولنا عبرة في مؤامرات تحطيم سمعة السياسيين المعارضين، او الراغبين بالتغيير، وصولاً الى الإغتيال الجسدي المباشر كما حصل مع الرئيس الراحل جون كينيدي.
شعارات من قبيل "القيادة الاخلاقية للعالم وعدم امكانية اخضاع العالم غصباً" والتي صدح بها اوباما، لم تكن كافية لإقناع وحوش الرأسمالية بخطورة النظرة الحالية الأميركية للعالم. ولكن اوباما استغل لحظة يأس وضعف النظام الأميركي تحت وطأة أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وحروب تستنزف موارد وطاقات البلاد، ليلج الى المنصب الأول على رأس الإدارة الأميركية. ولكن هل تمكن من تغيير شيء؟
أهم إنجازات اوباما
اعتدنا نحن العرب على النظر الى أي رئيس أميركي من خلال قياس مدى قربه من اسرائيل، أو ابتعاده عنها. وهذا ما لن نراه بسهولة، نظراً الى الاندماج الخطير الحاصل بين الشعبين الاسرائيلي والاميركي، حيث تمثل اسرائيل بالنسبة الى قسم كبير من الأميركيين، جزءًا من الانجيل، ووعداً الهيا. وعلى فرض تخلص احد الرؤساء من هذا الرهاب، فلا يبدو ان تغييراً حاسماً سيطرأ على اعضاء الكونغرس الذين قاطعوا أحد خطابات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو بالتصفيق وقوفا لأكثر من عشرين مرة، وهذا ما لا تجده في اعتى الديكتاتوريات العربية.
رغم هذا الجو الخانق المسيطر على الرأي العام الاميركي، تمكن اوباما من تمرير بعض اهم الانجازات، واعطى درساً بليغاً في تقديم المصلحة العليا في البلاد، حين مضى في انجاز الإتفاق النووي الإيراني، صابراً على مماطلة الجانب الإيراني ومناوراته الذكية، ومتجاهلاً الضغوط الإسرائيلية والعربية الجبارة على الإدارة الاميركية، حيث وصلت الوقاحة الإسرائيلية الى حد ذهاب نتانياهو الى مخاطبة الكونغرس مباشرة دون المرور على الرئاسة الأميركية، لإقناعهم بالتصويت على رفض الإتفاق. وهو تدخل خطير وغير مسبوق في السياسة الداخلية لا ترتضيه حتى جمهوريات الموز. كذلك لم ينفع الوفد العربي الرفيع الذي زار واشنطن في زحزحة اوباما عن قناعته بضرورة حل الموضوع النووي بالمفاوضات.
الإنجاز الإستراتيجي الآخر الذي يحسب لأوباما، هو رفضه لتوجيه ضربة جوية للنظام السوري سعى اليها السعوديون بكل ما ملكوا من مال وقوة، بذريعة استخدام النظام للسلاح الكيميائي ضد مدنيين، وبعد ان كانت الضربة وشيكة جداً وبإندفاع ودعم وجهوزية فرنسا وبريطانيا للمشاركة فيها، أحبط أوباما هذا المخطط الجهنمي بقبوله نزع السلاح الكيميائي السوري.
وقبيل نهاية ولايته ابى اوباما الا ان يترك بصمته في إزالة أحد أهم التوترات الباقية من الحرب الباردة، الا وهو انهاء القطيعة مع كوبا بعد خمسين عاماً من الحصار.
الفرصة العربية الضائعة
لو سلمنا جدلاً أن هناك قوة سياسية موحدة اسمها العرب، وانهم فعلا يريدون انهاء المشكلة العربية الاسرائيلية، فهم قد فوتوا -كعادتهم دائما- استثمار فرصة وجود اوباما لتحقيق شيء ما. فالناظر اليوم الى المرشحين المتسابقين الى شغل منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية سيصاب بخيبة أمل شديدة، ولا يمكنه الا ان يتساءل مع الكثير من المراقبين: هل هذا افضل ما تملك الولايات المتحدة؟ هل صحيح ان الخيار بين هيلاري كلينتون التي أكثر ما تنطبق عليها حكمة اوباما، لا تطمح الا "لتكون شيئاً ما"، وبين المهرّج دونالد ترامب والذي فيما لو وصل الى هذا المنصب الخطير، فإنه حتماً سيجعل الأميركيين يترحمون على قيادة جورج بوش؟
ومن سخرية القدر ان الخيار الأفضل للقضية العربية سيكون فوز "اليهودي" بيرني ساندرز، الذي يملك طروحات تقدمية جريئة وينادي بإقامة دولة فلسطينية. وينعته معارضوه بالإشتراكي نظراً لرغبته بفرض مزيد من الضرائب على الاغنياء لتمويل التعليم، "عدو وول ستريت" كما يوصف، يطمح الى تغيير النظام الإنتخابي برمته تحت دعوى أن 1% من كبار الأثرياء في الولايات المتحدة "يشترون" الإنتخابات بأموالهم. ولكن هل ينتصر العقل والمصلحة الوطنية في عملية الإختيار، أم ستجري الإنتخابات على الطريقة اللبنانية؟